وفّرَتْ وأنورتْ حيلةُ الشعار وعين الناقد
شعار ذكي ولافت، اعتمده المركز السعودي لكفاءة الطاقة مؤخرًا لحملته التوعوية عن الإنارة الهادفة لرفع مستوى الوعي حول السلوكيات المفترض اتباعها؛ للتوفير في استهلاك الطاقة. والاعتماد على الشعار ممارسة حديثة وفعّالة، تسهم في تحقيق الحملة لأهدافها عبر الكلمات القصيرة التي تلتصق بذاكرة الجمهور المستهدف، فتألفها، وتصبح جزءًا من روتينها اللُّغوي اليومي، ما يدفع الجمهور لتغيير سلوكهم تدريجيًّا. هذا ما يقوله علماء التسويق والإعلان، وللنقاد -أمثالي- كلمة كذلك، فهو شعار لُغوي، يعتمد على النسق اللساني في إيصال رسالته، واللغة أحد أهم إنجازات الإنسان، ولعلها أخطرها. هذا الذكي الذي أسعفه الإلهام ليصطاد اللمحة وحيدًا، أو في جلسة عصف ذهني جماعية ظفر بهذا الشعار، بناءً على عملية لغوية معقدة، أتمها -دون أن يدرك ربما- عقله في لحظات.. ليصبح شعارًا إشهاريّاً ملأ القنوات وشغل عقول الناس.. وقبل ستين عاماً وجّه رومان یاكبسون أذهاننا إلى الوظيفة الشعرية، حيث تركّز الرسالة على نفسها، أي أنّ الوظيفة اللغوية في هذه الحالة تشير إلى ذاتها (إلى جماليتها)، ويمكن أن تؤدي كذلك وظائف أخرى (مرجعية، إفهامية، انتباهية الخ).. والعبارة (وفّرت وأنورت) مثالٌ جيّدٌ، إذ تؤدي الوظيفة الشعرية دوراً مركزيّاً فيها، حين تسهم في جذب الانتباه إلى فتنتها أولاً ثم -بعد ذلك- تفعل بمتلقيها الأفاعيل. تعتمد عبارة الشعار على مستويات مجازية ثلاثة: تستفيد أولاً من العبارة الترحيبية الشائعة (أسفرت وأنورت)، وهي عبارة محلية شهيرة تُقال عند قدوم الضيوف غالباً؛ وتعتمد في بنيتها على عدة أبعاد لإيصال الدلالة المرجوة: أولها البُعد الصوتي الإيقاعي، حيث تتكون من فعليْن ماضييْن ينتهيان بتاء التأنيث، ويفصل بينهما واو العطف.. كما أنّ الفعلين مبنيان على وزن تفعيلة شعرية شهيرة هي (فاعلن= أسفرت، وأنورت). وهناك أيضًا البُعد المجازي في العبارة، الذي يشير للسفور والإضاءة، حيث يدّعي قائلها أنّ الشمس كشفتْ عن وجهها لتضيء المكان، كنايةً عن أهمية الضيف القادم وقدره.. تقول العبارة اعتماداً على الاستعارة: ظهرتم فكنتم الشمس التي أضاءت المكان، وكل ذلك مرتبط بالبُعد الدلالي الاجتماعي الذي يشير إلى الحب والتقدير والسعادة التي تحققت بحضور مَن عُنِي بالعبارة.. كل هذه الأبعاد لصيقة بالعبارة، وجزء من بنيتها ولا يمكن فصلها عن بعضها لإنتاج كامل المعنى. وهنا يأتي الشعار (وفرت وأنورت) ليستفيد من كل هذه الحمولات التي تحملها العبارة؛ فيعتمد على الصيغة ذاتها الفعلان الماضيان مع وزن فاعلن، مع تغيير صغير -ومهم- في القول الأول (أسفرت =وفّرتْ)، وهو ما يعني أيضًا الاستفادة من البُعدين المجازي (السفور والنور) والدلالي الاجتماعي (الاحتفاء والكرم). لكنّ الشعار يتكئ أيضًا على المعنى الأول (والحقيقي) للنور: حين يقصد بالفعل (أنورت) نورَ الأجهزة الكهربائية التي يقصدها بحملته، كما يستدعي البُعد الاقتصادي المرتبط بها (فاتورة الكهرباء)، ويحيل الفعل (وفرت) على توفير أكثر للمال، واستدامة أكثر للطاقة (مال أكثر، ونور أكثر). لكنّ هذا البُعد الأخير، لا يحضر إلا في سياق شعار الحملة الإشهاري فقط، أي أنه لا يرد -ولم يرد- إلا بَعد أن اُستُخدِمَ في الحملة.. من هنا نقف أمام ثلاث طبقات من المعنى: المعنى الحرفي للسفور والإنارة (الظهور والإشراق)، ثم المعنى المجازي للسفور والإنارة (الترحيب والبهجة والمديح)، ثم يأتي المعنى المجازي المُركّب للوفرة (وفرة المال ووفرة الطاقة).. إنّ اتكاء الشعار لم يكن على الألفاظ في حقيقتها، أو لنقُل في دلالاتها الأولى (السفور والنور)، بل اعتمد على وضعها المتحول مجازاً إلى معنى اجتماعي/ مجازي متداول.. من هنا يكتسب قيمته ودهشته: إذ يستلُّ عن هذا التعبير المجازي مجازاً إضافيّاً يقرّبه من دائرة الحقيقة، ليصبح شعارًا لسلوك إيجابي، يراد له أن يكرّس (توفير الطاقة).. وهو توظيف مجازيٌّ ومركّب، وإنْ حاول التمويه بغير ذلك. صحيفة المدينة أون لاين